مقال جدلي حول أهمية الفلسفة خاص بالشعب العلمية و اللغات الأجنبية 

السؤال: هل يمكن الإستغناء عن الفلسفة ؟ 

هل تقدم العلوم وانفصالها عن الفلسفة سوف يجعل منها مجرد بحث لا طائل منه؟ هل هناك ما يبرر وجود الفلسفة بعد أن استحوذت العلوم الحديثة على مواضيعها؟ هل تقدم العلم يعد حجة ضد الفلسفة؟هل يمكن للإنسان المعاصر التخلي عن الخطاب الفلسفي؟ هي يمكن إعتبار أن عصر الفلسفة قد ولى؟

مقدمة :(طرح المشكلة)

تعد الفلسفة من أقدم  البحوث التي وضعها الإنسان و أولى محاولاته الفكرية  و تعرف على أنها دراسة عقلية شاملة للوجود الإنساني و قد كانت في الماضي تضم في ثناياها كل العلوم لكن مع مطلع القرن17 حدثت ظاهرة فكرية مهمة تمثلت في إنفصال العلوم عن الفلسفة و ذلك بعد إستخدامها للمنهج التجريبي الإستقرائي الذي حققت بفضله تقدما و تطورا كبيرا و نتائج جليلة عادت بالفائدة على البشرية الأمر الذي  أدى إلى تزعزع مكانة الفلسفة و تراجعها في الأوساط الفكرية

وقد أثارت مشكلة مكانة الفلسفة في زمن التطور العلمي و التكنولوجي جدلا واسعا بين الفلاسفة و المفكرين فإنقسموا إلى تيارين متعارضين تيار يرى بأنه يجب الٱستغناء عن الفلسفة لأنها تعيق تقدم العلم و تيار يرى بأنها لازالت ضرورية و لايمكن الإستغناء عنها 

و أمام هذا الجدل فإن الإشكال الذي يمكن طرحه هو: هل يمكن الإستغناء عن التفلسف أم لا؟ أو بمعنى آخر هل أصبح الإنسان في غنى عن الفلسفة في ظل التطور العلمي؟

العرض :(محاولة حل المشكلة)

عرض منطق الأطروحة : "الفلسفة عديمة الفائدة و يجب التخلي عنها" 

إن الفلسفة لم تعد لها أي ضرورة لوجودها لأن إنفصال العلوم عنها و ما صاحبه من تطور بفضل إستخدامها للمنهج التجريبي لم يبقي لها أي دور تؤديه في حياة الإنسان فالإنسان المعاصر أصبح ينفر من الفلسفة لأنه وجد في العلم كل ما يلبي مطالبه و يتبنى هذا الرأي كل من "غوبلو,باشلار،كونت" و قد برروا موقفهم بالحجج التالية:

إن الفلسفة مجرد كلام عديم الفائدة و لا طائل منه و بحث عبثي لا يصل إلى نتائج قطعية تتعدد فيها الأراء المتناقضة و يكثر فيها الجدال العقيم فهي تقدم تساؤلات لاحلول لها ولا تقدم للإنسان أي فائدة في حياته العملية  فالفلسفة تشبه البحث عن قبعة سوداء في غرفة مظلمة لاوجود لها  في حين أن الواقع لا يعترف إلا بالنتائج الملموسة وهذا ما إستطاعت أن تحققه مختلف العلوم التي عادت بالفائدة على الإنسان في مختلف جوانب حياته  لذلك يقول بيرس " إن الفكر هو أولا و آخرا و دائما من أجل العمل " فما عجزت الفلسفة عن تقديمه طيلة قرون إستطاع العلم أن يحققه في ظرف وجيز

كما يثبت الواقع أن الزمن الذي نعيش فيه اليوم هو زمن العلم و التكنولوجيا  و تقدم الأمم يقاس بمدى ما تقدمه من نتائج على الصعيد العلمي و التكنولوجي لا بما تقدمه من أفكار و آراء فلسفية كاليابان التي تحتل صدارة الدول المتطورة لذلك يرى أوجست كونت انه يجب التخلص منها و ترك المجال للعلم الذي أفاد الإنسان في حل مشاكله و فهم واقعه و تغييره فالفكر البشري حسب كونت مر بثلاث مراحل هي المرحلة اللاهوتية(الدينية)" التي تفسر الظواهر تفسيرا غيبيا لاهوتيا" ثم المرحلة الميتافيزيقية(الفلسفية) وهي التي تفسر الظواهر تفسيرا عقليا وتبحث في عللها الأولى" ثم يتطور العلم لينتهي إلى المرحلة الوضعية (العلمية)"و التي تهتم بالكشف عن القوانين العلمية و الاسباب المباشرة للظواهر عن طريق الملاحظة و التجربة الحسية" فالمعرفة العلمية من خلال قانون الأحوال الثلاث تمثل آخر مرحلة من مراحل تطور الفكر البشري، وأن الفكر البشري في هذه المرحلة الوضعية –العلمية- قد تخلى عن كل الاعتبارات الميتافيزيقية والفلسفية التي لم تكن سوى محاولات فاشلة لتفسير ظواهر الكون، فوجه أنظاره نحو الظواهر الطبيعية والإنسانية لاكتشاف القوانين الثابتة التي تسيرها وتربط بعضها ببعض في علاقات كمية دقيقة، فهو أصبح يهتم بالإجابة عن سؤال"كيف" ولم يعد يهمه البحث عن الإجابة  لسؤال" لماذا.".

فالفلسفة تبقى مجرد قوالب فارغة و مصطلحات مبهمة لا يفهمها إلا أصحابها  وكثيرا ما يلجأ الفلاسفة إلى التعقيد و التعبير عن آرائهم الفلسفية بلغة غامضة لذلك يقول لانيو "التفلسف هو تفسير الوضح بالغامض" ويقال كذلك "لكي تكون فيلسوفا يجب أن تكون لك القدرة على قول كلام غامض " 

كما أن أكبر إنتاجات الفلسفة تمثلت في التفكير الميتافيزيقي و المنطق الصوري الذين لقيا إنتقادا لاذعا و إعتبرهما الكثير من المفكرين أنهما الحاجز الذي منع الإنسان من التقدم لذلك يقول باشلار " الحقائق الأولى أخطاء أولى "  

إن الفلسفة لا تتوفر فيها معايير و شروط المعرفة العلمية فهي تصورات و أراء ذاتية مرتبطة بالحياة الخاصة لكل فيلسوف و تعكس ظروفه وواقعه الإجتماعي كما انها لا تنتهي إلى نتائج قطعية تعبر عنها باللغة العادية التي لا تمت للعلم بصلة عكس ما نجده في العلوم الاخر كالفيزياء و البيولوجيا و  الفلك التي تتصف نتائجها بالدقة والموضوعية و تعبر عنها بصيغ رياضية  لذلك يقول غوبلو  "المعرفة التي ليست معرفة علمية ليست معرفة بل جهل" 

كما أن إنفصال العلوم عن الفلسفة جردها من مختلف مواضيعها خاصة التطور الذي حققته العلوم الإنسانية من خلال إعتمادها التجربة حيث أصبحت تتكفل بدراسة الإنسان و معالجة مشاكله النفسية، الإجتماعية و التاريخية التي كانت تمثل لب الفلسفة و هذا ما جعل بقاء الفلسفة ليس له ما يبرره   

نقد و مناقشة: حقيقة أن الفلسفة تراجعت مكانتها في عصر التطور التكنولوجي إلا أن هذا التيار بالغ في رفضه لها فالفلسفة تأمل و تفكير عقلي و الدعوة إلى إلغائها هي دعوة إلى إلغاء العقل و للوجود الإنساني  كما ان رفضها يحتاج إلى تبريره بحجج و أدلة و هذا في حد ذاته تفلسف فهذا الإتجاه يرفض الفلسفة بالفلسفة و هذا تناقض لذلك يقول باسكال " كل تهجم على الفلسفة هو تفلسف " 

عرض نقيض الأطروحة : "الفلسفة ضرورية ولا يمكن الإستغناء عنها "

إن الفلسفة ضرورة فكرية ملازمة لوجود الإنسان لا يمكن الإستغناء عنها و ليس بمقدور العلم أن يحل محلها فالعلم لا يستطيع أن يجيب عن كل ما يشغل ذهن الإنسان من تساؤلات خاصة تلك المرتبطة بصميم وجوده و التي هي من إختصاص الفلسفة فالعلم لا يشكل أي تهديد لها لأنها نمط خاص من التفكير بعيد عن العلم، فإذا كان العلم يهدف إلى تفسير الظواهر والوصول إلى القانون الثابت الذي تنتظم فيه الظواهر، فإن الفلسفة محاولة فهم تجربة الإنسان مع ذاته وتجربته مع العالم و يتبنى هذا الموقف كل من "ديكارت راسل أرسطو " و حججهم في ذلك مايلي:

إن التفلسف ظاهرة طبيعية في الإنسان و ميزة من ميزاته فالإنسان دائم التفكير في مستقبله و مصيره و في كل ما يثير مخاوفه و قلقه كالموت و الضعف و الفشل فالفلسفة ضرورة فكرية تتعلق بوجوده  و تعبر عنه و من خلالها إستطاع ديكارت أن يثبت وجوده عن طريق الكوجيتو " أنا أفكر ٱذن أنا موجود " فالإنسان لا يستطيع التوقف عن التفكير إلا إذا فارق الحياة  و يري ديكارت أن تقدم الأمم مرهون بما تقدمه من منتوج فكري فلسفي حيث يقول ديكارت " إن الفلسفة تميزنا عن الأقوام المتوحشين و الهمجيين و حضارة كل أمة تقاس بقدرة أناسها على التفلسف "

إن الفلسفة سلوك فطري يولد مع الإنسان و لا ينعدم إلا بإنعدامه فهي عبارة عن تساؤلات يطرحها الإنسان بإستمرار منذ صغره إلى آخر عمره فنحن نجد الطفل الصغير يتساءل عن مصير الأموات و حقيقة الخلق و هي قضايا ميتافيزيقية تعبر عن ميل الإنسان الفطري إلى التفلسف لذلك يقول أرسطو " لا نستطيع التوقف عن التفلسف إلا إذا توقفنا عن التنفس " 

كما أن الفلسفة بإعتبار أنها تفكير و تساؤل مستمر فهي تساعدنا على تنمية قدراتنا العقلية فتوسع خياله و تنمي ذكاءه و تحثه على الإبداع  و ترفع سقف آفاق و طموحات العقل البشري وتجعله في بحث مستمر عن الحقيقة يقول راسل " إن الفلسفة توسع عقولنا و تحررها من عقال العرف و التقاليد " فهي بحكم طبيعتها التساؤلية و الإشكالية تجعل العقل دائم البحث و التفكير لذلك يقول كارل ياسبيرس" إن الأسئلة في الفلسفة أهم من الاجوبة"

كما تلعب الفلسفة دور كبير في تغيير الواقع الإجتماعي السيء و تساهم في إصلاح  الأوضاع السياسية و الإقتصادية و الدينية داخل المجتمع وذلك من خلال الطابع النقدي الذي تمتاز به  فالتاريخ مليء بالشواهد التي تبرز معارضة الفلاسفة لمظاهر الجور والظلم في مجتمعاتهم مثل التسامح الديني في العصر الوسيط الذي حمل لواءه فلاسفة أمثال فولتير و مونتسكيو و كذا نظرية ماركس التي جاءت كردة فعل على الظلم و الإستغلال الذي مارسته الرأسمالية  .

و نجد الدين الإسلامي بدوره  يحث على ضرورة التأمل و التدبر و التفكير في قضايا و مسائل الوجود و الخلق حيث يرى إبن رشد أن الدين يدعو إلى إستعمال العقل و أن الفلسفة لا تعارض الدين بل تعززه و تقويه فالحق حسبه لا يتعارض مع الحق و نجد في القرآن الكريم مواضع كثيرة تدعو إلى إستعمال العقل منها قوله تعالى {{فإعتبروا  يا أولي الأبصار}} و قوله تعالى كذلك {{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}}  

كما أن الواقع يثبت أن الفلسفة في كثير من الأحيان تغطي عجز العلم مثل الطب فهناك عدة حالات التي فشل الأطباء في علاجها لكن الفلسفة عن طريق علم النفس تمكنت من ذلك إضافة إلى أن هناك قضايا كثيرة تهم الإنسان لا يستطيع العلم أن يدرسها مثل الحرية العدالة الأخلاق ... إلخ و التي تمثل اهم مواضيع الفلسفة لذلك يقول راسل " هناك قضايا خطيرة في الحياة لايستطيع العلم أن يعالجها "

نقد ومناقشة: حقيقة أن الفلسفة لها بعض الجوانب الإيجابية و قدمت للإنسان بعض الإسهامات إلا أن هذا التيار بالغ في تمجيده لها فالواقع يثبت تراجع مكانتها و أن الإنسان أصبح ينفر منها حيث أصبحت شعارا للتخلف و الرجعية فالحياة المعاصرة لم تعد تولي إهتماما للتفكير الفلسفي و لا تعترف إلا بالنتائج المادية التي تحقق المنفعة  

 تركيب :

يمكن القول أن الفلسفة والعلم  يكملان بعضهما و تجمعهما علاقة وظيفية فالفلسفة دائما ما تصحح مسار العلم و تنتقد سلبياته وتكشف عيوبه وتعيد توجيهه نحو  المسار الصحيح و هذا ما تمثل في مبحث الإبستمولوجيا " يقول هيجل " الفلسفة تأتي في  المساء بعد أن يكون العلم قد ولد فجرا " و يقول ويل ديورانت " الفلسفة بدون علم عاجزة و العلم بدون فلسفة مدمر                                                         

 كما أن عديد من الأسئلة  والقضايا الفلسفية التي كانت تؤرق كاهل الإنسان  إتخذها العلم مواضيعا له و أجاب عنها مثل قانون الجاذبية لذلك يقول راسل " الفلسفة تسأل و العلم يجيب"

و عليه فرغم تراجع مكانة الفلسفة و رغم العيوب التي بقيت متأصلة فيها إلا أنها تبقى ضرورية للإنسان  فمهما وصل إليه من تطور علمي إلا أنه يبقى بحاجة إلى التفكير الفلسفي لأن هناك قضايا لا يستطيع العلم الخوض فيها

 خاتمة :(حل المشكلة)

 و في الأخير يمكن القول أن الفلسفة و العلم متكاملان و مترابطان وكلاهما ضروري لحياة الإنسان فالعلم ضروري لما يحققه من منفعة و فائدة في الجانب المادي لحياة الإنسان و ضرورة الفلسفة تتمثل في ما تحققه من فائدة في الجانب الروحي للإنسان فلا أحد ينكر ما حققته الفلسفة من إصلاحات على الصعيد الإجتماعي و الديني و السياسي كما لا ننكر ما قدمه العلم من إسهامات سهلت حياة الإنسان و بالتالي  فلا يمكن تصور علم بدون فلسفة ولا فلسفة بدون علم و هذا ما عبر عنه لوي ألتوسير  فكلاهما يحتاج الآخر و يساهم في تطوره لذلك يقول يقول وايتهد "هناك مشروعية للفلسفة و العلم معا و في وسع كل منهما أن يعين الآخر "