عوامل النهضة العربية ومظاهرها وأسبابها وأعلامها

بدأ اتصال الشرق العربي بأوربا ، التي كانت قد بلغت شأوا بعيداً في التقدم العلمي ، وأحرزت نتائج باهرة في مختلف العلوم كان أميراً على بعض مناطق لبنان وسوريا وكانت هذه البلاد تسمى (الشام).
سافر السلطان فخر الدين إلى بعض البلاد الأوربية ، وشاهد ما وصلت إليه من تقدم حضاري ليس له مثيل في الشرق فأعجب بذلك أيما إعجاب ، فعمل على توثيق العلاقات بين بلاده ، وبلاد أوربا ، فاستقدم بعض الشركات الأوربية التجارية ، وأرسل بعض البعثات إلى روما لتلقي العلم في معاهدها ، وتعلم لغاتها.
وقد اهتم البابا بهذا الاتصال اهتماماً كبيراً ، فوجه بابا روما في ذلك الحين الآباء اليسوعيين أن يقوموا بإنشاء المدارس الأوربية في الشرق ، كما وجه باستقدام عدد من أبناء الموارنة إلى روما وإلحاقهم بمدارسها ليعودوا إلى بلادهم حاملين ثقافة أوربا وعلومهم ، فكانت أول لعثة عربية تعليمية إلى أوربا سنة 1578م .
ومثل ما اهتم ملوك إيطاليا بالشرق ، أهتم ملوك فرنسا بالشرق وبلبنان على وجه الخصوص ، فاستقدم لويس الرابع عشر ملك فرنسا عدداً من أبناء اللبنانيين إلى باريس حيث تعهد بتعليمهم مجاناً وأهتم المبشرون أيضاً بلبنان ، فأقبلوا إقبالاً شديداً فأنشأوا المدارس التي تعلم على المنهج الأوربي اللغات والعلوم التي كانت أوربا قد نبغت فيها .
ولكن على الرغم من ذلك كله فإن أثر اتصال الشرق بأوربا لم يكن له أثر واضح فى بقية البلاد العربية ، فإن تأثيره لم يمتد إلى مصر والعراق أو غيرهما من الوطن العربي حتى جاءت سنة 1797م ، تلك السنة التي يعتبرها مؤرخو الأدب الحديث البداية الحقيقية للنهضة الأدبية والثقافية المعاصرة .
في تلك السنة دخل نابليون مصر مسلحاً بأحدث ما توصلت إليه أوربا من أنواع الأسلحة ،بينما كان المصريون وبقية أنحاء الوطن العربي لا تعرف من أنواع الأسلحة إلا السيوف والرماح وبعض البنادق البدائية .
اصطحب نابليون معه في حملته العسكرية جماعة من العلماء في تخصصات مختلفة ، فأنشأ مجمعاً علميا ، وأحضر معه مطبعة عربية كان يطبع بها المنشورات والتعليمات التي يريد إيصالها إلى الشعب المصري ، ولم تكن مصر تعرف الطباعة قبل ذلك
على الرغم من أن نابليون وعلماءه لم يمكثوا في مصر أكثر من ثلاث سنوات فقد كان لتلك السنوات الثلاث أثر بليغ في الثقافة العربية والأدب العربي ، لأن ذلك اللقاء بين الشرق وأوربا قد بعث في الشرق روح التحدي والتصدي .
لما طرد المصريون نابليون من مصر سنة 1801م وتولى محمد على عرش مصر سنة 1805م فكر في إنشاء دولة حديثة تستعين بما وصلت إليه أوربا من العلوم والفنون والآداب .
وهنا تجمعت عدة عوامل أدت إلى ما يسمى بـ ( الأدب العربي الحديث)


*
عوامل نهضة الأدب العربي الحديث :

1/
إرسال البعثات إلى أوربا :

أرسل محمد على سنة 1826م مجموعة من الشباب المصريين إلى فرنسا عددهم أربعة وأربعون طالبا ليتخصصوا ، بعد إتقان اللغة في ، العلوم المختلفة في الزارعة ، والطب والجراحة والتشريح ، والطبيعة ، والكيمياء والعلوم البحرية ، والميكانيكا والترجمة.
كان هذا أول لقاء بين المصريين وبين الثقافة الغربية ولما عاد هؤلاء المبعوثون عادوا بثقافة جديدة ، وعقلية اتصلت بالحضارة الغربية ، وعرفوا أشياء لم يكونوا يعرفونها من قبل ، فقاموا بترجمة كثير من علوم أوربا وألفوا باللغة العربية كتباً في العلوم والآداب فأثروا اللغة بما زودوها به من أفكار ومصطلحات حديثة .

2/
إنشاء المطبعة :

عرف الشرق العربي المطبعة قبل مجيء ، نابليون إلى مصر عرفها في لبنان غير أنها لم تكن ذات تأثير في الأدب العربي لأنها كانت مقصورة على طباعة الكتب الدينية .
أنشأ محمد على أول مطبعة عربية في مصر سنة 1821م في حيّ بولاق فعرفت باسم مطبعة بولاق، لقد كان لمطبعة بولاق أثر واضح في النهضة الأدبية المعاصرة حيث قامت بطبع أمهات كتب الأدب العربي شعراً ونثراً ، كما طبعت مئات من الكتب العربية فى الطب والرياضيات والطبيعيات ، والتاريخ والتفسير والحديث .
أقبل الناس على كتب الأدب يقرءونها ، ويحفظون من دواوين الشعراء الأقدمين عيون الشعر العربي ، ومن كتب الأدب أرقاها أسلوباً ، ومـن كتب اللغـة ما وصلـهم باللغة القوية الأصلية .

3/
إنشاء الصحف :

أدى إنشاء المطبعة إلى ظهور لون جديد من ألوان القراءة هو الصحيفة التي لم تكن معروفة في الثقافة العربية من قبل
انشأ محمد على أول صحيفة في الوطن العربي سنة 1828م ، تولى رئاسة تحريرها رفاعة رافع الطهطاوي ، وهو عالم أزهري ذهب مع أول بعثة إلى فرنسا ليكون إماماً لها في الصلاة ، ومرجعاً لها في شعائرها الدينية الأخرى ، فاستغل وقت فراغه في تعلم اللغة الفرنسية فتعلمها وأتقنها ، وقرأ بها كثيراً في السياسة والتاريخ والجغرافيا والأدب الفرنسي شعراً ونثراً ، فأضاف إلى ثقافته الأصلية ثقافة غربية ، توفى سنة 1873م.
كان من أثر الصحف في النثر أنها هذبته وصقلته ، ونقلته من المحسنات البديعية من سجع وجناس وطباق ، إلى نثر مرسل دون قيد من القيود البديعية ، كما أنها مالت به نحو الإيجاز والسهولة لأن قراء الصحف لا يسيغون التقعر والأغراب في اللغة .

4/
الجمعيات العلمية والأدبية :

لقد كان للجمعيات الأدبية والعلمية أثر كبير في النهضة الأدبية فأنشئت أول هذه الجمعيات في سوريا 1847م ، وكان هدفها الارتقاء بالعلوم ونشر الفنون والآداب
وأنشئت في مصر جمعية اسمها (جمعية المعارف) فقامت بطبع طائفة من الكتب الأدبية والتاريخية والفقهية ، ثم قامت جمعية أخرى هي (جمعية التعريب) وكان هدفها ترجمة الكتب الأجنبية في الاقتصاد والاجتماع .

5/
المدارس الحديثة :

كان التعليم ، فيما مضى ، محصوراً في المعاهد الدينية التي نهضت بتعليم الدين فقها وتفسيراً وحديثاً ، وبتعليم العربية نحوا وصرفاً وبلاغة ولغة وأدباً ، ولم تكن تعنى ، إلا قليلاً ، بغير ذلك من العلوم .
أما المدارس الحديثة فقد أنشئت على نمط المدارس الأوربية التي تعلم اللغات والعلوم الحديثة كالرياضيات والجغرافيا والأحياء والكيمياء والطبيعة ، فكان لهذه المدارس أثرها فى نشر الوعي الثقافي للأمة .

6/
المسرح :

لم يعرف الوطن العربي ، ولا الأدب العربي هذا اللون من ألوان الأدب ، وإنما ظهر المسرح لأول مرة مع غزو نابليون لمصر ، فكان ذلك شيئاً جديداً فى الشرق ، ولما لم تكن فى الأدب العربي نصوص مسرحية فقد قام عدد من الأدباء بترجمة عدد من المسرحيات الفرنسية إلى اللغة العربية مما أضاف رافداً جديداً إلى الأدب العربي .


7/
المستشرقون :

المستشرقون علماء من أوربا وأمريكا وروسيا ، اهتموا بالشرق وتاريخه وآدابه ودياناته ولغاته ، فعكفوا على دراسته دراسة عميقة .
اهتم كثير من المستشرقين بالأدب العربي واللغة العربية منذ زمن طويل فجمعوا كثيراً من الكتب المخطوطة فقاموا بدراستها وتصحيحها وطبعها فى صورة جميلة ، فنشروا كثيراً من دواوين الشعراء وكتب الأدب فأقبل الأدباء والشعراء على هذه الكتب المصححة فنهلوا مما فيها من جمال وبلاغة .


مراحل تطور الأدب العربي الحديث


*
أولاً : الشعر

مر الشعر العربي المعاصر بثلاثة أطوار .

الطور الأول : طور الضعف .
اتسم الشعر في هذا الطور بالضعف فى اللغة والفكرة فقد كان شعراً ركيكاً ضعيفاً فى شكله ومضمونه ، أما في شكله فقد كان مثقلاً بأنواع المحسنات اللفظية المتكلفة ، وكان هم الشاعر عندما يهنئ بمولود أو يرثي شخصاً أو يقرظ كتاباً أن يذكر في البيت الأخير أو عجزه تاريخ المولود أو المرثي أو تاريخ تأليف الكتاب .
قال الشيخ على الليثي توفى سنة 1896م ، مؤرخاً وفاة محمود باشا الفلكي فى آخر بيت من المرثية .
حلّ القضاء وناعي المجد أرخنا * قد مات محمود باشا المسند الفلكي
فإذا جمعنا القيمة العددية لكل حرف من حروف عجز البيت لكان المجموع 1303هـ وهو السنة التي توفي فيها المرثي .
أما من حيث مضمون الشعر وأغراضه في هذا الطور فقد كانت المعاني ضيقة تافهة مبتذلة، يقول د: شوقي ضيف : ( اقرأ دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد على وعباساً الأول وسعيداً من مثل إسماعيل الخشاب ، والشيخ حسن العطار ، والشيخ محمد شهاب الدين ، فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من محسنات البديع ولن تجد شعوراً ولا عاطفة، لقد تبلدت الحياة ، فجمد الشعر والشعراء ولم يعد هناك إلا التقليد .. فقد أصبح الشعر حساباً وأرقاماً وتمارين هندسية عسيرة الحل).
انصرف هم الشعراء إلى التشطير ( وهو أن يضيف الشاعر إلى كل شطر من أبيات قصيدة أعجب بها شطراً من عنده ) والترقيط ( وهو أن تشتمل قصيدته على كلمات كل كلمة فيها مبدوءة بحرف من حروف الهجاء مثل قول الشيخ على الدرويش توفى 1853 م .

علىّ على عينيك عــذل عـواذلي * عذاب عليها عند عاشقها عــذب 
عذارك عذري عجب عطفك عـدتي * عيونك عصبي عاد عائبها عضــب 

فكل كلمة من هذين البيتين مبدوءة بحرف العين.

الطور الثاني : طور الانتقال من التقليد إلى التجديد .
لقد أخذت عوامل النهضة تعمل عملها نفوس الأدباء والشعراء ، وفى عقولهم فقد طبعت كثير من دواوين الشعراء في عصور العربية الزاهرة كما طبعت كتب الأدب التي ألفت في العصر العباسي أمثال كتب الجاحظ وابن المقفع وأمالي أبي على القالي وغيرها ، كما عاد المبعـوثون من أوربـا وقد اطلعـوا على ألـوان وأجناس من الأدب لم تكن معروفة في الأدب العربي .
من أبرز شعراء هذا الطـور (رفاعة الطهطاوي) توفى سنة 1873م وعائشة التيمورية توفيت سنة 1902م .
قلنا أن هذا الطور طور انتقال لأن الشعراء لم يتخلصوا تماماً من سمات الشعر الركيك المليء بالمحسنات والتخميسات والتشطيرات .
ومع ذلك فقد ظهرت في أشعار بعض شعراء هذا الطور آثار تلك النهضة ، فالقارئ لشعر الطهطاوي يجد فيه طابعاً تجديدياً بارزاً يتمثل في الشعر الوطني ، لأن فى الشعر الوطني حديثاً عن الوطن بمفهومه السياسي والحضاري .
من شعره الوطني قوله :
ولئن حلفت بأن مصـر لجنة * وقطوفها للفائزين دواني 
والنيل كوثرها الشهي شرابـه * لأبركل البر في أيمـاني 

ومن شعره أيضاً نشيده الذي وضعه للجيش المصري :

يـأيهـا الـجنود * والقادة الأســود 
أن أمكم حســود * يعود هامي المدمـع 
فكم لكم حـروب * بنصركم تئــوب
لم تثنكم خطـوب * ولا اقتحام معمـع 

ويلاحظ في هذا النشيد ، إضافة إلى مضمونه الوطني ، التجديد والتنويع فى الموسيقى ، وهو اتجاه لم يكن مألوفاً في شعر من سبقوه إلا عند ا